JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

recent
عاجل

جدة تقرأ




 كتب د.عبدالله صادق دحلان 


في شهر ديسمبر من كل

 عام، وبعد أيَّام من انتهاء ونجاح أعمال مهرجان البحر الأحمر السينمائيِّ بجدَّة، الذي كان إضافةً نوعيَّةً للمشهد الثقافيِّ السعوديِّ، تحتضن جدَّة إحدى أهم الفعاليَّات الفكريَّة في المملكة: معرض جدة للكتاب 2025، تحت شعار «جدة تقرأ»؛ ليكون منصَّةً ثقافيَّةً كُبْرى تحتضن الأفكار، وتحتفي بالمواهب، وتُعيد صياغة علاقة المجتمع بالكتاب، مؤكِّدًا أنَّ المعرفة لا تزال حجر الأساس في بناء الأجيال، وفي صناعة مجتمع واعٍ ومبتكر، مهما تصاعدت موجات التكنولوجيا، وتغيَّرت أنماط التلقِّي لدى الأطفال والشباب.


هذا الحدث الثقافي الضخم، الذي يُتوقَّع أنْ يستقطب أكثر من مليون زائرٍ، وألف دار نشر عربيَّة ودوليَّة، بمشاركة 24 دولةً، توزَّعت على 400 جناحٍ، يعكس مكانة جدَّة كمركز للثقافة والفكر، ويؤكِّد التزايد الواضح في الإقبال المجتمعيِّ على الفعاليَّات المعرفيَّة، حيث تم هذا العام توسُّع المعرض في عدد الأجنحة المخصَّصة للمؤلِّفِينَ السعوديِّينَ الشَّباب، ومنصَّات التَّوقيع، وجلسات الحوار المفتوحة، إضافةً إلى البرامج النوعيَّة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعيِّ لتقديم تجربة فريدة للزوَّار.


ورغم التطوُّر السَّريع الذي فرضته وسائل التواصل الاجتماعيِّ، وما تبعه من تراجع ملحوظ، في الوقت الذي يقضيه الشَّباب مع الكتب، فإنَّ معرض جدَّة للكتاب يسعى إلى إعادة التَّوازن، وإحياء ذلك الرابط الإنسانيِّ العميق بين القارئ والورق، فالمشكلة ليست في التقنية نفسها، بل في انحسار ثقافة القراءة أمام المحتوى السَّريع، والتشتُّت الذي يُضعف قدرة الأجيال الجديدة على التركيز، والبحث، والتحليل، وهنا تأتي أهميَّة المعرض باعتباره منصَّةً تُعيد إلى الكتاب مكانته وجاذبيته، وتقدِّم القراءة كمتعةٍ وليست واجبًا.


ولأنَّ صناعة جيل قارئ لا تبدأ من عند الكتب فحسب، بل من البيئة التعليميَّة التي تحتضنها، من هنا تأتي أهميَّة دعوة المدارس والجامعات لتنظيم رحلات تعليميَّة لطلابها لزيارة المعرض على مدى أيامه، فهذه الزيارات ليست مجرد رحلة ثقافيَّة، بل فرصة لتكوين علاقة حقيقيَّة بين الطالب والكتاب، والتعرُّف على أحدث الإصدارات في مجالات العلوم، والتقنية، والذكاء الاصطناعيِّ، وريادة الأعمال، والآداب، والفنون، وحضور ورش العمل، وكل ما يسهم في توسيع مداركه وتحفيز عقله على الإبداع.


كما يمكن للمؤسَّسات الأكاديميَّة أنْ تستثمر هذه الزيارة بتكليف الطلاب بمهام تعليميَّة مرتبطة بالمعرض، مثل إعداد تقارير نقديَّة عن الكتب، أو تلخيص جلسات الحوار، أو إجراء مقابلات قصيرة مع المؤلِّفِينَ، أو تنفيذ مشروعات بحثيَّة صغيرة حول صناعة الكتاب والنشر، كل هذه الأنشطة تُحوِّل الزيارة إلى تجربة تعليميَّة حقيقيَّة تدمج بين التعلم النظريِّ والممارسة العمليَّة.


ولا يمكن الحديث عن معرض جدَّة للكتاب دون التطرُّق إلى دوره في تقوية الهويَّة الثقافيَّة الوطنيَّة، فالمعرض لا يقدم الكتب فحسب، بل يقدم سردية سعودية ناضجة عن حاضر الوطن ومستقبله، من خلال الندوات التي تناقش التحولات الاقتصادية والتنموية التي تشهدها المملكة، والورش التي تركِّز على مهارات المستقبل، واللقاءات التي تجمع الشباب بالمفكرِينَ والمبدعِينَ وروَّاد الأعمال. إن هذه المنظومة الثقافية متكاملة، وتنسجم مع رُؤية المملكة 2030 التي وضعت الإنسان في قلب عمليَّة التنمية، وأكدت أنَّ المعرفة ليست ترفًا، بل ضرورة؛ لبناء وطن مزدهر قادر على المنافسة العالميَّة.


كما خصص المعرض هذا العام، ركنًا للحِرف اليدويَّة؛ للتعريف بالحِرف التقليديَّة؛ دعمًا للتراث الوطنيِّ والصناعات الإبداعيَّة، وكذلك سيتضمَّن المعرض عروضًا لعديد من الأفلام السعوديَّة مثل (سوار)، و(هوبال)، و(سليق)، وغيرها، وذلك لدعم الثقافة المرئيَّة والمسموعة.


إنَّ شعار (جدة تقرأ) ليس مجرَّد عنوان، بل رسالة ودعوة ومسؤوليَّة، جدَّة تقرأ؛ لأنَّها مدينة تحب الحياة، وتؤمن بأنَّ المعرفة هي القوة التي ترفع الأمم، وجدَّة تقرأ؛ لأنَّ أجيالها تستحق أنْ ترى العالم من خلال نافذة الكتاب، لا من خلال شاشة واحدة تفرض عليهم محتوى سريعًا، يتلاشى بمثل سرعة ظهوره، القراءة تبني الهويَّة، تُنمِّي الخيال، وتؤسِّس لوعي نقدي قادر على مواجهة تحدِّيات المستقبل.


ودعوة المدارس والجامعات لتنظيم رحلات إلى معرض جدَّة للكتاب ليست توصيةً عابرةً، بل خطوة إستراتيجيَّة لبناء جيل يقرأ، يفكِّر، ويبتكر، جيل يدرك أنَّ الكتاب لم يفقد مكانته، وأنَّ المعرفة الحقيقيَّة تنبت من الكلمات التي تُكتَب بحبٍّ، وتُقرَأ بشغفٍ.


إنَّ جدة لا تحتضن معرضًا للكتاب فحسب، بل تحتضن نهضة معرفية كاملة، هذه النهضة تبدأ من طالب يفتح كتابًا، ويفتح معه مستقبلًا جديدًا.


وإذا جاز لي الاقتراح، فإنَّني أرى أنَّ من المبادرات ذات الأثر العميق، أن تتبنَّى وزارة الثقافة برنامجًا وطنيًّا مخصصًا لدعم الكتَّاب السعوديِّين؛ عبر تخصيص ميزانيَّة سنويَّة لطباعة أعمالهم، وشراء نسخ منها لتوزيعها على المدارس والجامعات والمكتبات العامَّة والملحقيَّات الثقافيَّة في الخارج، والسفارات الأجنبيَّة في المملكة، وذلك لتعزيز حضور المؤلِّف السعوديِّ، ويساهم في صناعة حركة نشر وطنيَّة مستدامة، ويُشكِّل جسرًا ثقافيًّا يعكس هويَّة المملكة، وثراءها المعرفيَّ.



NameEmailMessage